فصل: ذكر استعمال خالد بن برمك:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.سنة سبع وأربعين ومائة:

.ذكر قتل حرب بن عبد الله:

فيها أغار أسترخان الخوارزمي في جمع من الترك على المسلمين بناحية أرمينية وسبى من المسلمين وأهل الذمة خلقاً ودخلوا تفليس، وكان حرب مقيماً بالموصل في ألفين من الجند لمكان الخوارج الذين بالجزية، وسير المنصور إلى محاربة الترك جبرائيل بن يحيى وحرب بن عبد الله، فقاتلوهم، فهزم جبرائيل وقتل حرب، وقتل من أصحاب جبرائيل خلقٌ كثير.

.ذكر البيعة للمهدي وخلع عيسى بن موسى:

وفيها خلع عيسى بن موسى بن محمد بن علي من ولاية العهد وبويع للمهدي محمد بن المنصور.
وقد اختلف في السبب الذي خلع لأجله نفسه، فقيل: إن عيسى لم يزل على ولاية العهد وإمارة الكوفة ومن أيام السفاح إلى الآن، فلما كبر المهدي وعزم المنصور على البيعة له كلم عيسى بن موسى في ذلك، وكان يكرمه ويجلسه عن يمينه ويجلس المهدي عن يساره، فلما قال له المنصور في معنى خلع نفسه وتقديم المهدي عليه أبى وقال: يا أمير المؤمنين كيف بالأيمان علي وعلى المسلمين من العتق والطلاق وغير ذلك؟ ليس إلى الخلع سبيل! فتغير المنصور عليه وباعده بعض المباعدة وصار يأذن للمهدي قبله، وكان يجلس عن يمينه في مجلس عيسى ثم يؤذن لعيسى فيدخل فيجلس إلى جانب المهدي، ولم يجلس عن يسار المنصور، فاغتاظ منه ثم صار يأذن للمهدي ولعمه عيسى بن علي، ثم لعبد الصمد بن علي، ثم لعيسى بن موسى، وربما قدم وأخر، إلا أنه يبدأ بالإذن للمهدي على كل حال.
وتوهم عيسى أنه يقدم إذنهم لحاجةٍ له إليهم، وعيسى صامت لا يشكو، ثم صار حال عيسى إلى أعظم من ذلك، فكان يكون في المجلس معه بعض ولده فيسمع الحفر في أصل الحائط وينثر عليه التراب وينظر إلى الخشبة من السقف قد حفر عن أحد طرفيها لتقلع فيسقط التراب على قلنسوته وثيابه فيأمر من معه من ولده بالتحول ويقوم هو يصلي ثم يؤذن له فيدخل بهيئته والتراب على رأسه وثيابه لا ينفضه، فيقول له المنصور: يا عيسى ما يدخل علي أحد بمثل هيئتك من كثرة الغبار والتراب! أفكل هذا من الشارع؟ فيقول: أحسب ذلك يا أمير المؤمنين، ولا يشكو شيئاً.
وكان المنصور يرسل إليه عمه عيسى بن علي في ذلك، فكان عيسى بن موسى لا يؤثره ويتهمه. فقيل: إن المنصور أمر أن يسقى عيسى بن موسى بعض ما يتلفه فوجد الماء في بطنه فاستأذن في العود إلى بيته بالكوفة، فأذن له، فمرض من ذلك واشتد مرضه ثم عوفي بعد أن أشفى.
وقال عيسى بن علي للمنصور: إن ابن موسى إنما يتربص بالخلافة لابنه موسى فابنه الذي يمنعه، فقال له: خوفه وتهدده، فكلمه عيسى بن علي في ذلك وخوفه، فخاف موسى بن عيسى وأتى العباس بن محمد فقال: يا عم إني أرى ما يسام أبي من إخراج هذا الأمر عن عنقه وهو يؤذى بصنوف الأذى والمكروه، فهو يهدد مرة، ويؤخر إذن مرة، ويهدم عليه الحيطان مرة، وتدس إليه الحتوف مرة، وأبي لا يعطي على ذلك شيئاً ولا يكون ذلك أبداً، ولكن ها هنا طريق لعله يعطي عليها وإلا فلا، قال: وما هو؟ قال: يقبل عليه أمير المؤمنين وأنا شاهد فيقول له: إني أعلم أنك لا تبخل بهذا الأمر عن المهدي لنفسك لكبر سنك وأنه لا تطول مدتك فيه، وإنما تبخل به لإبنك، أفتراني أدع ابنك يبقى بعدك حتى يلي على ابني؟ كلا والله لا يكون ذلك أبداً، ولأثبن على ابنك تنظر حتى تيأس منه. فإن فعل ذلك فلعله أن يجيب إلى ما يراد منه.
فجاء العباس إلى المنصور وأخبره بذلك، فلما اجتمعوا عنده قال ذلك، وكان عيسى بن علي حاضراً، فقام ليبول، فأمر عيسى بن موسى ابنه موسى ليقوم معه يجمع عليه ثيابه، فقام معه، فقال له عيسى بن علي: بأبي أنت وبأبي أبٌ ولدك! والله إني لأعلم أنه لا خير في هذا الأمر بعدكما، وإنكما لأحق به، ولكن المرء مغرىً بما تعجل، فقال موسى في نفسه: امكنني هذا والله من مقاتله وهو الذي يغري بأبي، والله لأقتلنه! فلما رجعا قال موسى لأبيه ذلك سراً، فاستأذنه في أن يقول للمنصور ما سمع منه، فقال له أبوه: أف لهذا رأياً ومذهباً! ائتمنك عمك على مقالة أراد أن يسرك بها فجعلتها سبباً لمكروهه، لا يسمعن هذا أحد، ارجع إلى مكانك.
فلما رجع إلى مكانه أمر المنصور الربيع فقام إلى موسى فخنقه بحمائله، وموسى يصيح: الله الله في دمي يا أمير المؤمنين! وما يبالي عيسى أن تقتلني وله بضعة عشر ذكراً، والمنصور يقول: يا ربيع أزهق نفسه، والربيع يوهم أنه يريد تلفه وهو يرفق به وموسى يصيح. فلما رأى ذلك أبوه قال: والله يا أمير المؤمنين ما كنت أظن أن الأمر يبلغ منك هذا كله! فاكفف عنه، فها أنا ذا أشهدك أن نسائي طوالق ومماليكي أحرار وما أملك في سبيل الله تصرف ذلك في من رأيت يا أمير المؤمنين! وهذه يدي بالبيعة للمهدي. فبايعه للمهدي. ثم جعل عيسى بن موسى بعد المهدي.
فقال بعض أهل الكوفة: هذا الذي كان غداً فصار بعد غد.
وقيل: إن المنصور وضع الجند وكانوا يسمعون عيسى بن موسى ما يكره، فشكا ذلك من فعلهم، فنهاهم المنصور عنه، وكانوا يكفون ثم يعودون، ثم إنهما تكاتبا مكاتبات أغضبت المنصور، وعاد الجند معه لأشد ما كانوا، منهم: أسد بن المرزبان، وعقبة بن سلم، ونصر بن حرب بن عبد الله، وغيرهم، فكانوا يمنعون من الدخول عليه ويسمعونه، فشكاهم إلى المنصور، فقال له: يا بن أخي أنا والله أخافهم عليك وعلى نفسي، فإنهم يحبون هذا الفتى، فلو قدمته بين يديك لكفوا. فأجاب عيسى إلى ذلك.
وقيل: إن المنصور استشار خالد بن برمك في ذلك وبعثه إلى عيسى، فأخذ معه ثلاثين من كبار شيعة المنصور ممن يختارهم وقال لعيسى في أمر البيعة، فامتنع، فرجعوا إلى المنصور وشهدوا على عيسى أنه خلع نفسه فبايع للمهدي، وجاء عيسى فأنكر ذلك فلم يسمع منه، وشكر لخالد صنيعه.
وقيل: بل اشترى المنصور منه ذلك بمال قدره أحد عشر ألف ألف درهم له ولأولاده وأشهد على نفسه بالخلع.
وكانت مدة ولاية عيسى بن موسى الكوفة ثلاث عشرة سنةً، وعزله المنصور واستعمل محمد بن سليمان بن علي عليها ليؤذي عيسى ويستخف به، فلم يفعل ولم يزل معظماً له مبجلاً.

.ذكر موت عبد الله بن علي:

وكان المنصور قد أحضر عيسى بن موسى بعد أن خلع نفسه وسلم إليه عمه عبد الله بن علي وأمره بقتله، وقال له: إن الخلافة صائرةٌ إليك بعد المهدي فاضرب عنقه، وإياك أن تضعف فتنقض علي أمري الذي دبرته؛ ثم مضى إلى مكة وكتب إلى عيسى من الطريق يستعلم منه ما فعل في الأمر الذي أمره، فكتب عيسى في الجواب: قد أنفذت ما أمرت به؛ فلم يشك أنه قتله.
وكان عيسى حين أخذ عبد الله من عند المنصور دعا كاتبه يونس بن فروة وأخبره الخبر، فقال: أراد أن تقتله ثم يقتله لأنه أمر بقتله سراً ثم يدعيه عليك علانيةً، فلا تقتله ولا تدفعه إليه سراً أبداً واكتم أمره. ففعل ذلك عيسى.
فلما قدم المنصور وضع على أعمامه من يحركهم على الشفاعة في أخيهم عبد الله، ففعلوا وشفعوا، فشفعهم وقال لعيسى: إني كنت دفعت إليك عمي وعمك عبد الله ليكون في منزلك، وقد كلمني عمومتك فيه، وقد صفحت عنه فأتنا به.
قال: يا أمير المؤمنين أل تأمرني بقتله؟ فقتلته! قال: ما أمرتك! قال: بلى أمرتني. قال: ما أمرتك إلا بحبسه وقد كذبت! ثم قال المنصور لعمومته: إن هذا قد أقر لكم بقتل أخيكم، قالوا: فادفعه إلينا نقيده به. فسلمه إليهم، وخرجوا به إلى الرحبة، واجتمع الناس وشهر الأمر، وقام أحدهم ليقتله، فقال له عيسى: أفاعل أنت؟ قال: إي والله! قال: ردوني إلى أمير المؤمنين. فردوه إليه. فقال له: إنما أردت بقتله أن تقتلني. هذا عك حي سوي. قال: ائتنا به. فأتاه به. قال: يدخل حتى أرى رأيي؛ ثم انصرفوا، ثم أمر به فجعل في بيت أساسه ملح وأجرى الماء في أساسه فسقط عليه، فمات فدفن في مقابر باب الشام، فكان أول من دفن فيها؛ وكان عمره اثنتين وخمسين سنة.
قيل: ركب المنصور يوماً ومعه ابن عياش المنتوف، فقال له المنصور: تعرف ثلاثة خلفاء أسماؤهم على العين قتلت ثلاثة خوارج مبدأ أسمائهم على العين؟ قال: لا أعرف إلا ما يقول العامة: إن علياً قتل عثمان، وكذبوا؛ وعبد الملك قتل عبد الرحمن بن الأشعث؛ وعبد الله بن الزبير قتل عمرو ابن سعيد؛ وعبد الله بن علي سقط عليه البيت. فقال المنصور: إذا سقط عليه فما ذنبي أنا؟ قال: ما قلت إن لك ذنباً.
قوله: ابن الزبير قتل عمرو بن سعيد ليس بصحيح، إنما قتله عبد الملك.
عياش بالياء المثناة من تحت، والشين المعجمة.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة ولى المنصور محمداً ابن أخيه أبي العباس السفاح، البصرة، فاستعفى منها، فأعفاه، فانصرف إلى بغداد واستخلف بها نخبة بن سالم، فأقره المنصور عليها، فلما رجع إلى بغداد مات بها.
وحج بالناس هذه السنة المنصور، وكان عامله على مكة والطائف عمه عبد الصمد بن علي، وعلى المدينة جعفر بن سليمان، وعلى مصر يزيد بن حاتم المهلبي.
وفيها أغزى عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس مولاه بدراً، وتمام ابن علقمة طليطلة، وبها هاشم بن عذرة، وضيقا عليه، ثم أسراه هو وحياة ابن الوليد اليحصبي وعثمان بن حمزة بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب، وأتيا بهم إلى عبد الرحمن في جباب صوف وقد حلقت رؤوسهم ولحاهم وقد أركبوا الحير وهم في السلاسل، ثم صلبوا بقرطبة.
وفيها قدم رسول عبد الرحمن الذي أرسله إلى الشام في إحضار ولده الأكبر سليمان فحضر وسليمان معه، وكان قد ولد لعبد الرحمن بالأندلس ولد هشام، فقدمه الأمير عبد الرحمن على سليمان، فحصل بينهما حقدٌ وغل أوجبا ما نذكره فيما بعد.
وفيها تناثرت النجوم.
وفيها مات أشعث بن عبد الملك الحمراني البصري. وهشام بن حسان مولى لعتيك، وقيل: مات سنة ثمان وأربعين. وعبد الرحمن بن زبيد بن الحارث اليامي أبو الأشعث الكوفي. ثم دخلت:

.سنة ثمان وأربعين ومائة:

.ذكر خروج حسان بن مجالد:

وفيها خرج حسان بن مجالد بن يحيى بن مالك بن الأجدع الهمداني. ومالك هذا هو أخو مسروق بن الأجدع. وكان خروجه بنواحي الموصل بقرية تسمى بافخارى قريب من الموصل على دجلة، فخرج إليه عسكر الموصل، وعليها الصقر بن نجدة، وكان قد وليها بعد حرب بن عبد الله، فالتقوا واقتتلوا وانهزم عسكر الموصل على الجسر، وأحرق الخوارج أصحاب حسان السوق هناك ونهبوه.
ثم إن حسان سار إلى الرقة ومنها إلى البحر ودخل إلى بلد السند، وكانت الخوارج من أهل عمان يدخلونهم ويدعونهم، فاستأذنهم في المصير إليهم، فلم يجيبوه، فعاد إلى الموصل، فخرج إليه الصقر أيضاً والحسن بن صالح بن حسان الهمداني وبلال القيسي، فالتقوا فانهزم الصقر وأسر الحسن بن صالح وبلال، فقتل حسان بلالاً واستبقى الحسن لأنه من همدان، ففارقه بعض أصحابه لهذا.
وكان حسان قد أخذ رأي الخوارج عن خاله حفص بن أشيم، وكان من علماء الخوارج وفقهائهم.
ولما بلغ المنصور خروج حسان قال: خارجي من همدان؟ قالوا: إنه ابن أخت حفص بن أشيم. فقال: فمن هناك؟ وإنما انكر المنصور ذلك لأن عامة همدان شيعة لعلي، وعزم المنصور على إنفاذ الجيوش إلى الموصل والفتك بأهلها، فأحضر أبا حنيفة، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وقال لهم: إن أهل الموصل شرطوا إلي أنهم لا يخرجون علي، فإن فعلوا حلت دماؤهم وأموالهم، وقد خرجوا. فسكت أبو حنيفة وتكلم الرجلان وقالا: رعيتك، فإن عفوت فأهل ذلك أنت، وإن عاقبت فبما يستحقون. فقال لأبي حنيفة: أراك سكت يا شيخ؟ فقال: يا أمير المؤمنين أباحوك ما لا يملكون أرأيت لو أن امرأة أباحت فرجها بغير عقد نكاح وملك يمين أكان يجوز أن توطأ؟ قال: لا! وكف عن أهل الموصل وأمر أبا حنيفة وصاحبيه بالعود إلى الكوفة.

.ذكر استعمال خالد بن برمك:

وفيها استعمل المنصور على الموصل خالد بن برمك وسبب ذلك أنه بلغه انتشار الأكراد بولايتها وإفسادهم، فقال: من لها؟ فقالوا: المسيب بن زهير، فأشار عمارة بن غمرة بخالد بن برمك، فولاه وسيره إليها وأحسن الناس وقهر المفسدين وكفهم، وهابه أهل البلد هيبةً شديدة مع إحسانه إليهم.
وفيها ولد الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك لسبع بقين من ذي الحجة قبل أن يولد الرشيد بن المهدي بسبعة أيام، فأرضعته الخيزران أم الرشيد بلبن ابنها، فكان الفضل بن يحيى أخا الرشيد من الرضاعة؛ ولذلك يقول سلم الخاسر:
أصبح الفضل والخليفة هارو ** ن رضيعي لبان خير النساء

وقال أبو الجنوب:
كفى لك فضلاً أنّ أفضل خرّةٍ ** غذتك بثديٍ والخليفة واحد

.ذكر ولاية الأغلب بن سالم إفريقية:

لما بلغ المنصور خروج محمد بن الأشعث من إفريقية بعث إلى الأغلب ابن سالم بن عقال بن خفاجة التميمي عهداً بولاية إفريقية. وكان هذا الأغلب ممن قام مع أبي مسلم الخراساني وقدم إفريقية مع محمد بن الأشعث؛ فلما أتاه العهد القيروان في جمادى الآخرة سنة ثمانٍ وأربعين ومائة وأخرج جماعةً من قواد المضرية وسكن الناس.
وخرج عليه أبو قرة في جمعٍ كثير من البربر، فسار إليه الأغلب، فهرب أبو قرة من غير قتال، وسار الأغلب يريد طنجة، فاشتد ذلك على الجند وكرهوا المسير وتسللوا عنه إلى القيروان، فلم يبق معه إلا نفر يسي.
وكان الحسن بن حرب الكندي بمدينة تونس، وكاتب الجند ودعاهم إلى نفسه، فأجابوه، فسار حتى دخل القيروان من غير مانع.
وبلغ الأغلب الخبر فعاد مجداً، فقال له بعض أصحابه: ليس من الرأي أن تعدل إلى لقاء العدو في هذه العدة القليلة، ولكن الرأي أن تعدل إلى قابس، فإن أكثر من معه يجيء إليك لأنهم كرهوا المسير إلى طنجة لا غير وتقوى بهم وتقاتل عدوك. ففعل ذلك وكثر جمعه وسار إلى الحسن بن حرب فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم الحسن وقتل من أصحابه جمع كثير، ومضى الحسن إلى تونس في جمادى الآخرة سنة خمسين ومائة، ودخل الأغلب القيروان.
وحشد الحسن وجمع فصار في عدة عظيمة، فقصد الأغلب، فخرج إليه الأغلب من القيروان، فالتقوا واقتتلوا، فأصاب الأغلب سهمٌ فقتله، وثبت أصحابه، فتقدم عليهم المخارق بن غفار، فحمل المخارق على الحسن، وكان في ميمنة الأغلب، فهزمه، فمضى منهزماً إلى تونس في شعبان سنة خمسين ومائة، وولي المخارق إفريقية في رمضان، ووجه الخيل في طلب الحسن، فهرب الحسن من تونس إلى كنايه فأقام شهرين، ثم رجع إلى تونس، فخرج إليه من بها من الجند فقتلوه.
وقد قيل: إن الحسن قتل بعد قتل الأغلب، لأن أصحاب الأغلب ثبتوا بعد قتله في المعركة، فقتل الحسن بن حرب أيضاً وولى أصحابه منهزمين، وصلب الحسن، ودفن الأغلب وسمي الشهيد، وكانت هذه الوقعة في شعبان سنة خمسين ومائة.

.ذكر الفتن بالأندلس:

في هذه السنة خرج سعيد اليحصبي المعروف بالمطري بالأندلس بمدينة لبلة.
وسبب ذلك أنه سكر يوماً فتذكر من قتل من أصحابه اليمانية مع العلاء، وقد ذكرناه، فعقد لواء، فلما صحا رآه معقوداً فسأل عنه فأخبر به، فأراد حله ثم قال: ما كنت لأعقد لواء ثم أحله بغير شيء؟! وشرع في الخلاف، فاجتمعت اليمانية إليه وقصد إشبيلية وتغلب عليها وكثر جمعه، فبادره عبد الرحمن صاحب الأندلس في جموعه، فامتنع المطري في قلعة زعواق لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، فحصره عبد الرحمن فيها وضيق عليه ومنع أهل الخلاف من الوصول إليه.
وكان قد وافقه على الخلاف غياث بن علقمة اللخمي، وكان بمدينة شذونة، وقد انضاف إليه جماعةٌ من رؤساء القبائل يريدون إمداد الطري، وهم في جمع كثير.
فلما سمع عبد الرحمن ذلك سير إليهم بدراً مولاه في جيش، فحال بينهم وبين الوصول إلى المطري، فطال الحصار عليه وقلت رجاله بالقتل، ففارقه بعضهم، فخرج يوماً من القلعة وقاتل فقتل وحمل رأسه إلى عبد الرحمن.
فقدم أهل القلعة عليهم خليفة بن مروان، فدام الحصار عليهم، فأرسل أهلها يطلبون الأمان من عبد الرحمن ليسلموا إليه خليفة، فأجابهم إلى ذلك وآمنهم، فسلموا إليه الحصن وخليفة، فخرب الحصن وقتل خليفة ومن معه، ثم انتقل إلى غياث، وكان موافقاً للمطري على الخلاف، فحصرهم وضيق عليهم، فطلبوا الأمان فآمنهم إلا نفراً كان يعرف كراهتهم لدولته، فإنه قبض عليهم، وعاد إلى قرطبة، فلما عاد إليها خرج عليه عبد الله بن خراشة الأسدي بكورة جيان، فاجتمعت إليه جموعٌ، فأغار على قرطبة، فسير إليه عبد الرحمن جيشاً، فتفرق جمعه، فطلب الأمان، فبذله له عبد الرحمن ووفى له.

.ذكر عدة حوادث:

وفيها عسكر صالح بن علي بدابق ولم يغز.
وحج بالناس أبو جعفر المنصور، وكان ولاة الأمصار من تقدم ذكرهم.
وفيها مات سليمان بن مهران الأعمش، وكان مولده سنة ستين. وفيها مات جعفر بن محمد الصادق وقبره بالمدينة يزال، وهو وأبوه وجده في قبر واحد مع الحسن بن علي بن أبي طالب. وفيها مات زكرياء بن أبي زائدة. وأبو أمية عمرو بن الحارث بن يعقوب مولى قيس بن سعد بن عبادة، وقيل غير ذلك، وكان مولده سنة تسعين. وعبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان، ويقال مولى تميم، وهو ثقة. ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى القاضي. ومحمد ابن الوليد الزبيدي. ومحمد بن عجلان المدني. وعوام بن حوشب بن يزيد ابن رويم الشيباني الواسطي. ويحيى بن أبي عمرو السيباني، من أهل الرملة.
سيبان بالسين المهملة، ثم بالياء المثناة من تحت، ثم بالباء الموحدة: بطن من حمير. ثم دخلت:

.سنة تسع وأربعين ومائة:

وفيها غزا العباس بن محمد الصائفة أرض الروم ومعه الحسن بن قحطبة ومحمد بن الأشعث، فمات محمد في الطريق.
وفيها استتم المنصور بناء سور بغداد وخندقها وفرغ من جميع أمورها وسار إلى حديثة الموصل ثم عاد.
وحج بالناس محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. وفيها عزل عبد الصمد بن علي على مكة في قول بعضهم، واستعمل محمد بن إبراهيم. وكان عمال الأمصار من تقدم ذكرهم سوى مكة والطائف.
وفيها أغزى عبد الرحمن صاحب الأندلس بدراً مولاه إلى بلاد العدو فجاوز إليه وأخذ جزيتها. وكان أبو الصباح حي بن يحيى على إشبيلية فعزله فدعا إلى الخلاف، فأنفذ إليه عبد الرحمن وخدعه حتى حضر عنده فقتله.
وفيها مات سلم بن قتيبة الباهلي بالري، وكان مشهوراً عظيم القدر. وكهمس بن الحسن أبو الحسن التميمي البصري. وفيها توفي عيسى بن عمر الثقفي النحوي المشهور، وعنه أخذ الخليل النحو، وله فيه تصنيف. ثم دخلت:

.سنة خمسين ومائة:

.ذكر خروج أستاذ سيس:

وفيها خرج أستاذ سيس في أهل هراة وباذغيس وسجستان وغيرها من خراسان، وكان فيما قيل في ثلاثمائة ألف مقاتل، فغلبوا على عامة خراسان، وساروا حتى التقوا هم وأهل مرو الروذ، فخرج إليهم الأجشم المروروذي في أهل مرو الروذ فقاتلوه قتالاً شديداً، فقتل الأجشم وكثر القتل في أصحابه وهزم عدة من القواد، منهم: معاذ بن مسلم، وجبرائيل بن يحيى، وحماد ابن عمرو، وأبو النجم السجستاني، وداود بن كرار.
ووجه المنصور، وهو بالرذان، خازم بن خزيمة إلى المهدي، فولاه المهدي محاربة أستاذ سيس وضم إليه القواد. فسار خازم وأخذ معه من انهزم وجعلهم في أخريات الناس يكثر بهم من معه، وكان معه من هذه الطبقة اثنان وعشرون ألفاً. ثم انتخب منهم ستة آلاف رجل وضمهم إلى اثني عشر ألفاً كانوا معه من المنتخبين، وكان بكار بن سلم فيمن انتخب، وتعبأ للقتال، فجعل الهيثم بن شعبة بن ظهير على ميمنته، ونهار بن حصين السعدي على ميسرته، وبكار بن سلم العقيلي في مقدمته، وكان لواؤه مع الزبرقان.
فمكر بهم وراوغهم في أن ينقلهم من موضع إلى موضع وخندق إلى خندق حتى قطعهم، وكان أكثرهم رجالة، ثم سار خازم إلى موضع فنزله وخندق عليه وعلى جميع أصحابه، وجعل له أربعة أبواب، وجعلى على كل باب ألفاً من أصحابه الذين انتخب. وأتى أصحاب أستاذ سيس ومعهم الفؤوس والمرور والزبل ليطموا الخندق، فأتوا الخندق من الباب الذي عليه بكار بن سلم، فحملوا على أصحاب بكار حملة هزموهم بها، فرمى بكار بنفسه، فترجل على باب الخندق وقال لأصحابه: لا يؤتى المسلمون من ناحيتنا. فترجل معه من أهله وعشيرته نحو من خمسين رجلاً وقاتلوهم حتى ردوهم من بابهم، ثم أقبل إلى الباب الذي عليه خازم رجل من أصحاب أستاذ سيس من أهل سجستان اسمه الحريش، وهو الذي كان يدبر أمره، فلما رآه خازم مقبلاً بعث إلى الهيثم بن شعبة، وكان في الميمنة، يأمره أن يخرج من الباب الذي عليه بكار، فإن من بإزائه قد شغلوا عنهم، ويسير حتى يغيب عن أبصارهم، ثم يرجع من خلف العدو، وقد كانوا يتوقعون قدوم أبي عون بن سلم بن قتيبة من طخارستان.
وبعث خازم إلى بكار: إذا رأيت رايات الهيثم قد جاءت كبروا وقولوا: قد جاء أهل طخارستان. ففعل ذلك الهيثم، وخرج خازم في القلب على الحريش وشغلهم بالقتال وصبر بعضهم لبعض.
فبينا هم على ذلك نظروا إلى أعلام الهيثم فتنادوا بينهم: جاء أهل طخارستان، فلما نظروا إليها حمل عليهم أصحاب خازم فكشفوهم، ولقيهم أصحاب الهيثم فطعنوهم بالرماح ورموهم بالنشاب.
وخرج عليهم نهار بن حصين من ناحية الميسرة وبكار بن سلم وأصحابه من ناحيتهم فهزموهم ووضعوا فيهم السيوف، فقتلهم المسلمون فأكثروا، وكان عدد من قتل سبعين ألفاً، وأسروا أربعة عشر ألفاً، ونجا أستاذ سيس إلى جبل في نفر يسير، فحصرهم خازم وقتل الأسرى، ووافاه أبو عون وعمرو ابن سلم ومن معهما، فنزل أستاذ سيس على حكم أبي عون، فحكم أن يوثق أستاذ سيس وبنوه وأهل بيته بالحديد، وأن يعتق الباقون وهم ثلاثون ألفاً، فأمضى خازم حكمه وكسا كل رجل ثوبين، وكتب إلى المهدي بذلك، فكتب المهدي إلى المنصور.
وقيل: إن خروج أستاذ سيس كان سنة خمسين، وكانت هزيمته سنة إحدى وخمسين ومائة.
وقد قيل: إن أستاذ سيس ادعى النبوة وأظهر أصحابه الفسق وقطع السبيل.
وقيل: إنه جد المأمون أبو أمه مراجل، وابنه غالب خال المأمون، وهو الذي قتل ذا الرياستين الفضل بن سهل لمواطأة من المأمون، وسيرد ذكره إن شاء الله.